هؤلاء الذين يخوضون عباب البحر الأبيض المتوسط من
اسطنبول إلى غزة، بسفن مستأجرة محملة بالأدوية والمواد الغذائية لنقلها
إلى الشعب المحاصر منذ سنوات، يدركون تماماً أن “إسرائيل” أغلقت البر
والبحر والجو وعزلت القطاع عن العالم، ولو كان في يدها لمنعت الهواء من
الوصول إليه .
ناشطون من دول عدة، ما زالوا قيد إنسانيتهم وضمائرهم
لم يحتملوا صمم العالم وصمته إزاء جريمة العصر التي ترتكب بحق مليون ونصف
المليون، فقرروا ركوب البحر في أسطول صغير لكسر الحصار وليؤكدوا أن هناك في
هذا العالم من يرفض هذه الاستباحة لآدمية الإنسان، وأن النظام العنصري
المستأسد بقوته وبالدولة الأعظم لن يستطيع أن يكون بمنجاة من المحاسبة
والوقوف أمام محكمة الضمير والأخلاق الإنسانية عندما تواجه بوارج “إسرائيل”
السفن المسالمة المحملة بالدواء والغذاء وهي تحاول الوصول إلى طفل يواجه
الموت لنقص في الدواء، وشيخ مقعد أعياه المرض وأم تنتظر بعض الطحين لتصنع
منه رغيفاً يسد الرمق ويسكت أطفالها الجوعى .
هي ساعات وتبدأ المواجهة في بحر غزة بين القبطان
والقرصان، بين من يحمل الأمل لإزالة الألم وبين من يحمل المدفع ليمارس
هوايته في الحصار والقتل والهمجية .
هي ساعات وتدور معركة على سطح الماء بين الخير المطلق
والشر المطلق، بين العالم المتمسك بالحق والعدالة والسلام والحرية وبين
عالم آخر لا يعيش إلا على الحروب والدمار والدماء . هي مواجهة غير متكافئة
ولكن لا بد منها للتأكيد مرة أخرى على أن الحق يستحق الثمن الذي يدفع من
أجله، وأن الدم يمكن أن ينتصر على السيف .
هؤلاء الذين ركبوا المخاطر، معظمهم ليسوا عرباً ولا
ينطقون بالضاد، ولا تربطهم بأهل القطاع روابط الدم والقربى والتاريخ
والجغرافيا، لكنهم رفضوا الصمت أمام المحرقة الكبرى وتحركوا لينقلوا إلى
العالم حقيقة “إسرائيل” .
هؤلاء ليسوا أبناء عمومة وخؤولة للشعب المحاصر في
القطاع، لكنهم تحركوا لأن الذين يجب أن يقوموا بهذا الدور قرروا التقاعد من
كل أدوارهم حتى الإنسانية منها .
شكراً، لهؤلاء الذين يمثلون الضمير العالمي الذي لا
يزال فيه عرق ينبض ويفيض بالحياة والكرامة ويرفض الاستسلام والخضوع لجبروت
الأقوياء .
,