الحياة الدنيا؛ لايستطيع أن يصلح أمور دنياه، ولا يستطيع أن يصلح أمور دينه أبداً؛ ذلك لأن الذي وضع الموت وراء ظهره وتخيل أنه غير مقبل عليه وتناساه أو نسيه، فلابد أن يُقبل هذا الإنسان على هذه الحياة الدنيا إقبال العاشق، إقبال النهم، إقبال الخالد المخلَّد، بل المخلِّد أيضاً في هذه الحياة التي يعيشها، ومن ثَمَّ فإنه يغامر في الوصول إلى ما يهوى وما يحلم به، وما يسيل لعابه عليه؛ دون أن يجد أمامه أي ضابط أو أي قيود تحد من مغامراته، وتحد من إقباله. تختفي الأخلاقيات، تختفي الضوابط الاجتماعية التي يشيع بمقتضاها الإيثار بدلاً من الأثرة، كل ذلك يختفي، ذلك لأن هذا الإنسان نسي الموت أو تناسى الموت، ومن ثَمَّ فهو عندما يقبل على الدنيا يقبل عليها إقبال الظمآن الذي يعلم أن البحار كلها لن تروي ظمأه، يقبل على متعها وملاذّها إقبال من لا يرى أي حد للمتع التي يتشهاها، والإنسان هكذا شأنه، كما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: ((لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى إليه ثالثاً، ولايملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) أي لا يوقفه عند حد إلا تذكره للموت، كما نبه بيان الله سبحانه وتعالى.
وهكذا فإن الإنسان الذي نسي أو تناسى الموت ووضعه وراء ظهره؛ لا يسعد نفسه في تعامله مع الدنيا ولا يسعد إخوانه، بل لابد أن يكون عبئاً على نفسه ولابد أن يكون أيضاً عبئاً على إخوانه في المجتمع الذي هو فيه، يؤثر نفسه على الآخرين يغمر دون حدود، دون قيود، دون ضوابط.
ولكنه إذا وضع مشروع تعامله مع الحياة التي يعيشها ووضع في الخطوة الأولى من هذا المشروع صورة الواقع الذي يعيشه، وعلم أن الموت هو النهاية وهو المرحلة الأخرى لكل مغامراته وأعماله، ثم وضع هذه النهاية من حياته في بوابة تعامله مع الحياة كما نبه بيان الله سبحانه وتعالى، فإنه يقبل على الحياة الدنيا ومعايشها؛ لكن لا إقبال العاشق النهم، بل إقبال الموظف الذي أقامه الله عز وجل على ثغر كلفه بمَلْئِه. يقبل على تجارته، صناعته، زراعته، أعماله إقبال من كلفه الله سبحانه وتعالى بذلك يجد بيانَ الله عز وجل يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 67/15] يقول لبيك يارب. يمارس أعماله ووظائفه وهو يحسِب في كل ليلة أن الموت ربما سيواجهه في صباح اليوم التالي. إقباله على الدنيا إقبال الموظف، ومن ثَمَّ فإذا دعا الداعي إلى الإيثار آثر، وإذا دعا الداعي إلى ضبط النفس وعدم تَمَيُّعها وسيرها في سكك الحياة المتنوعة. وإذا دعا الداعي إلى أن يسير طبق النهج الذي رسمه الله قال: لبيك. ومن ثمَّ فهو يُسعد نفسه بالمال الذي يجمعه، ويسعد مجتمعه أيضاً؛ لأنه لا يصبح عندئذ عبئاً على أفراد المجتمع بل يصبح عوناً لأفراد المجتمع بفضل أي شيء؟ بفضل أنه وضع الموت مدخلاً لتعامله مع الحياة. مامن خطوة يخطوها إلا وهو يعلم أن نهاية عمله هو الموت. وما الموت؟ التحول من الحياة الدنيا إلى الحياة البرزخية، الإقدام على الله سبحانه وتعالى.[center]